أصبح موضوع استشراف المستقبل من الضرورات الملحة في عصرنا، لاسيما وأن التغيرات التي تحدث يوماً بعد يوم هي متسارعة ومتنامية، والأحداث متداخلة ومتلاحقة، والتطلعات متزايدة وملحة، والحديث عن المستقبل هو بمثابة الحديث عن مصير الأجيال القادمة، أي ميراث البشرية لجهة انقطاع الحضارة، أو ديمومتها.
يعتبر الاستشراف فنَّ وعِلْمَ تَشكيلِ المستقبل، وهو مَهارة عملية تَتضمن رسم نَهْجٍ استباقيٍّ واعتماد سيناريوهات يمكن تَحويلها إلى واقعٍ ملموس يَرتقي بالعمل الحكومي أو العمل الخاص على أُسُسٍ ومعايير مبتكرة.
تم تعريف استشراف المستقبل على أنه: عملية منهجية تَشاركية تَقوم على جمع المعلومات المستقبلية ووضع رُؤْى متوسطة وطويلة الأجل تهدف إلى اتخاذ قرارات قابلة للتنفيذ في الوقت الحاضر.
وهو وسيلة منظمة لتشكيل المستقبل واتِّخاذ القرارات والتَّصَرُّف من خلال محاولات نظامية للنظر في مستقبل العلوم والتكنولوجيا والمجتمع والاقتصاد، وتفاعلاتها، من أجل تعزيز المنفعة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، كما أنه عمليةُ تَوَقُّع التغيير وإدارته.
أي أنه أسلوب منهجي وتشاركي لتطوير استراتيجيات وسياسات فعالة من أجل المستقبل المتوسط وطويل المدى.
يمكن تعريف استشراف المستقبل أيضاً على أنه القدرة على النظر في تطورات المستقبل واحتياجاته، والقدرة على إدراك الأبعاد المستقبلية، وهو لا يهدف إلى التنبؤ بالمستقبل لكشف النقاب عما يحصل فيه، كما لو أنّه أمر محدد سلفاً، وإنما لمساعدتنا في بنائه، مما يدعونا للنظر في المستقبل كشيء يمكننا خلقه أو تشكيله، وليس كشيء محتم ومقرر مسبقاً.
المستقبل المنظور: هو الذي بدأ فعلاً ولكنه لم يصل بعد، مثل القطار الذي تحرك من محطة ويسير إلى الأمام وسيصل إلى محطة معروفة. ومثال ذلك عدد السكان، المستوى التعليمي، التوجه الاقتصادي في مجال ما.
المستقبل غير المنظور: غير ظاهر ولكن يمكن التنبؤ به من خلال أحداث أو معلومات محددة. ومثال ذلك، التطورات التكنولوجية المتوقعة، ودورة حياة المؤسسات.
المستقبل في الماضي: التاريخ يُعيد نفسه وفق ظواهر متكررة،. ومثال ذلك بعض الفقاعات التي تنفجر كل فترة كأسهم شركات النت في أمريكا، وارتفاع أسعار العقارات في أمريكا.
المستقبل الذي بجانبنا: ما يحدث لغيرك في مجال نشاطك قد يَصل إليك بطريقة أو أخرى، و سوف تكبر مع مرور الزمن. ومثال ذلك المشاكل التي تواجهها السوق المحلية، نقص الخبرات، ارتفاع الرواتب.
يُوجد أربع خصاص تُمَيِّز الاستشراف عن أنواعٍ أخرى من دراسات المستقبل:
أولاً: مُوَجَّه بالعمل
الاستشراف ليس تحليل تطورات المستقبل أو تأملها فقط ولكن أيضاً دعم العاملين من أجل تشكيل المستقبل بشكل أكثر فاعلية، نظرياً لا يُمكن اعتبار الدراسات التحليلية للمستقبليات (أي دراسات المستقبليات) على أنها عملية استشراف دون ربطها بالأفعال الممكنة مستقبلاً؛حيث يكون هناك إمكانية لتشكيل المستقبل.
ثانياً: منفتح على المستقبل البديل
يَفْترض الاستشراف أنَّ المستقبل غير محتوم، وبالتالي يُمكن للمستقبل أنْ يَتطور في اتجاهات مختلفة، وهذه الاتجاهات يُمكن تشكيلها إلى حد ما بالقرارات المُتَّخَذَة اليوم، بمعنى آخر، هناك درجة معينة من الحرية في الاختيار بين مُستقبليات بديلة ممكنة، وبالتالي زيادة فرصة الوصول إلى حالة المستقبل المرغوبة.
ثالثاً: تشاركي
لا يتم القيام بالاستشراف من قبل مجموعة صغيرة من الخبراء أو الأكاديميين، بل يشمل عدداً أكبر من مختلف مجموعات المُمَثَّلين المَعْنِيِّين بالقضايا المطروحة، وتَنتْشر نتائج عملية الاستشراف بين جمهور كبير سعياً وراء ردود أفعاله، والحصول على التغذية الراجعة.
رابعاً : متعدد الاختصاصات
يرتكز الاستشراف على مبدأ أنَّ المشاكل التي نُواجهها لا يُمكن فَهمها بشكل صحيح إذا ربطناها بِبُعْدٍ واحد ثم قسمناها كي تُناسب منظور مختلف الاختصاصات الأكاديمية، وإنما يُقَدِّم الاستشراف طريقة تستحوذ على الحقائق في مُجملها مع جميع المتغيرات التي تؤثر فيها، بغض النظر عن النوع (الكمي والنوعي).
معظم التغيُّرات الهامة التي تُؤَثِّر في العالم لا تَعرف لها حدوداً أو أسواقاً وهي تؤثر في كل جزء من المجتمع اليوم، وتتزايد الحاجة إلى استشراف المستقبل يوماً بعد يوم نظراً للأسباب التالية:
يُشَكِّل التغيير المتسارع في العقود الأخيرة أحد الأسباب الرئيسة الداعية والموجبة لاستشراف المستقبل، حتى تتمكن المؤسسات والحكومات من تحقيق النجاح والاستدامة، ويَشمل التغيير مختلف أوجه الحياة الإنسانية وعلى الجوانب التالية:
وبالنهاية فإن الاستشراف يعني تَشكيل المستقبل لا انتظاره كمجهول يَتوجب علينا تقبُّل كل ما يَحْمله لنا ونَجد أنفسنا مُجْبَرين على التعامل مع المتغيرات في ساعتها مما يعوق مسيرة التطور والنجاح والاستدامة.
ولا بد لنا من الإشارة إلى أنَّ الجهود المبذولة في العالم العربي لاستشراف المستقبل لا تزال دون المستوى المطلوب حتى هذه اللحظة، مما يَجْعَلُنا فريسة سهلة لدوامة التغييرات المتلاحقة، الأمر الذي يتطلب الترويج لثقافة الوعي بالمستقبل، واستشراف آفاقه لدى أبناء الأمة العربية، من مختلف المشارب والتخصصات، والتوعية بأهمية التعرف على ركائز ومنطلقات هذا العلم الاستشرافي، وتوسيع دائرة المعرفة بهذا النوع من الدراسات المستقبلية في بلادنا، وبما ترمي إلى تحقيقه من أهداف، وبما تتبعه من منهجيات وأساليب للبحث في المستقبل.
المصدر: https://cutt.us/rTD4S